الإمام الشافعي | ج2 | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

الإمام الشافعي | ج2 | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة - تاريخ التشريع الإسلامي, شخصيات إسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس طيبين مع تاريخ التشريع من خلال الأئمة المجتهدين أهل الذكر وأهل التقوى وأهل العلم عبر العصور، تحدثنا في حلقة سابقة عن الإمام الشافعي إمام الأئمة وبدر التتمة. الإمام محمد بن إدريس الذي شرَّف مصر، وهو الإمام الوحيد من الأئمة الأربعة من أهل
السنة والجماعة الذي توفي في مصر. عرفنا كيف تلقى العلم، فتلقى العربية وتلقى الشريعة، وكيف رحل جهاداً في سبيل لتلقي العلم في اليمن ثم في بغداد، كيف صاحب قبيلة الهذيليين سبع عشرة سنة، كيف درس الفقه على مسلم بن خالد الزنجي وعلى الإمام مالك في المدينة. رحلة عظيمة جداً في طلب العلم وفي أداء العلم أيضاً بعد ذلك. أراد الشافعي أن يحصل على علم الليثي بن سعد في مصر، لَمَّا أملى كتابه الحجة على أمثال أبي ثور والكرابيسي
والزعفراني وأبي عبد الرحمن الشافعي وغيرهم إلى آخره من تلاميذه في بغداد، أراد أن يخرج إلى رحلة في مصر لتحصيل علم الليث بن سعد. الليث بن سعد مات لكن أصحابه ما زالوا يقيمون في مصر، وكان الشافعي يقول عن الليث: كان من مالك، مالك! هو كان يحبه كثيراً ويقول: "إذا ذُكِرَ العلماء فما مالك إلا نجم"، يعني شيئاً آخر، لكنه كان يقول: "الليث كان أعلم من مالك إلا أن أصحابه ضيّعوه". وهنا أيضاً نأخذ فكرة عن أن هناك من الأصحاب من يخدم مذهبه، وهناك من يتكاسل ولا ينقل العلم فيضيع كما... حدثَ ذلك مع الليث بن سعد ومع الأوزاعي ومع سفيان
بن عيينة ومع سفيان الثوري ومع حماد بن سليمان، وهكذا لم يجدوا تلاميذ لنشر المذهب والقيام على خدمته. خرج الشافعي إلى مصر سنة مائة وتسعة وتسعين للهجرة، ثم توفي بعد ذلك سنة مائتين وأربعة، فيكون قد مكث في مصر خمس من العراق إلى أين أنت ذاهب يا فضيلة الإمام؟ قال له: تَتَلْمَذُ وتذهب إلى مصر وتتركنا؟ فقال لهم: هناك الممات. إذاً هو ما زال حديث الولادة في سنة مائة وخمسين، وسيموت في سنة مائتين وأربعة، يعني أربعة وخمسين سنة بالهجري، وأقل من ذلك بالميلادي. لكنه شعر، لكنه الهم، لكنه كان يقول هذه الكلمة أو أنه كان يريد
أن يبقى في مصر حتى الممات، حينما دخل مصر أقام في المنطقة التي فيها مسجد عمرو بن العاص الآن، التي تسمى بالفسطاط التي نسميها نحن في القاهرة مصر القديمة، واشتغل في طلب العلم وفي تدريسه. غيّر الإمام الشافعي بعض اجتهاداته وبعض فتاويه وبعض مداخلة حتى صار له مذهب قديم في بغداد الذي لخصه وأملاه في كتاب الحجة، ومذهب جديد في مصر الذي لخصه وأملاه في كتاب الأم. في مصر التف حوله الناس وتعجبوا من فصاحة لسانه، ومن علمه الواسع بالعربية، ومن
علمه الواسع بالحديث، ومن علمه الواسع بالفقه، فأصبح له تلاميذ كثيرون. الربيع المراضي والربيع الجيزي والبويطي وكثير من تلاميذه هنا في مصر التف حوله هؤلاء وكانوا يجلسون مجالس العلم. يصف الربيع بن سليمان فقال: كان الشافعي يجلس في حلقته بعد صلاة الصبح، فيأتيه أهل القرآن بعدما ينتهي من الصلاة ويجلس. كانت المساجد مدارس، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء. أهل الحديث
المحاضرة الثانية في الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه فإذا ارتفعت الشمس بين الساعة العاشرة والعاشرة والنصف قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر في مناقشة من جانبين فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار ثم ينصرف رضي الله تعالى عنه يبقى هو أعمل من بعد الفجر، بعد الفجر يعني على الساعة الخامسة صباحًا، أعمل حتى الساعة الحادية عشرة، يعني ست ساعات وهو يُدرِّس. التدريس يُنشئ الناس ويجعلهم حاضرين في العلم، والمذاكرة والمناظرة والأخذ والرد يفتح ويعمق البحث. ولذلك
نجد محمد بن عبد الحكم قال: "ما رأيت مثل الشافعي"، كان أصحاب الحديث يجيئون. إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها فيقومون وهم متعجبون منه كأنه قضى حياته كلها في الحديث، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لا يقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه. أمر عظيم جداً، أول أمر في العالم التدريس فإن كما قال مشايخنا، ينشئ الناس ثانياً التأليف. في الحقيقة يجعل الإنسان أكثر دقة وهو يصوغ العبارة، فيقول: "لا، هذه الكلمة ليست هنا، هذه الكلمة هنا". ولذلك رأينا الشافعي يدوّن علمه
في الكتب، فألّف كتاب الرسالة في أصول الفقه، وألّف كتاب الأم وهو موسوعة ضخمة اشتملت على الفروع وعلى... الأصول وعلى اللغة وعلى التفسير وعلى الحديث وحوى بين دفتيه كتاب الأم هذا عدداً هائلاً من كل ذلك من الأحاديث والآثار والفقه، فقه السلف الصالح. يُعَدُّ كتاب الأمة كتاباً جامعاً لكثير من كتب الفقه ومن كتب الأصول، يضم بين جانبيه بالإضافة إلى هذا إبطال الاستحسان وجماع العلم واختلاف الحديث. وسير الواقدي وسير الأوزاعي والرد على محمد بن الحسن واختلاف العراقيين واختلاف علي وعبد الله بن مسعود واختلاف مالك والشافعي وغير ذلك، ويتميز
هذا الكتاب "الأم" وهو في مذهبه الجديد أنه يُعد من أقدم المصنفات الجامعة. كان الشافعي كثيراً جداً يحتكم إلى اللغة في فهم النصوص، وكان يمزج بين الفقه. والأصول والقواعد والضوابط والفروع الفقهية، وكان كثيراً ما يبين المناظرات والمناقشات التي تربي الملكة والتي تعمق البحث. ولذلك نجد الشافعية يهتمون جداً بطباعة كتاب الأم، فطُبع في مطبعة بولاق وأُعيد طبعه وبعد ذلك في دار الشعب، وكذلك كتاب الرسالة طُبع كثيراً، إلا أن أهم طبعة هي طبعة فضيلة الشيخ أحمد شاكر في
سنة ألف وتسعمائة وأربعين حيث بذل فيها يعني شيئاً كثيراً، وكتاب الأم وما هو عليه شرحه الشيخ أحمد بك الحسيني تلميذ الشمس الإنبابي، وشرحه في نحو عشرين مجلداً، وأظنه لم يكتمل، لكنه موجود منه نسخة في دار الكتب المصرية، والحمد لله على هذا العلم الكبير الذي اهتمت. به مصر وحفظته للعالم كله، فالإمام الشافعي بعد ذلك مات ودُفن في مصر. كان له شعر، كان شاعراً. الإمام في الحقيقة حتى أن بعضهم جمع شعره في دواوين ومجموعات كثيرة. شعر
الإمام الشافعي ربما ذكرنا بعضه، وهو شعر فيه حكمة وفيه تعليم وفيه شيء من هذا القبيل ذكرناه. في الحلقة الماضية: أخي، لن تنال العلم إلا بستة، سأنبئك عن تفصيلها ببيان: ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان. يقول: شكوت إلى وكيع سوء حفظي، فأرشدني إلى ترك المعاصي، وأخبرني بأن العلم نور، ونور الله لا يُهدى لعاصي. يقول: دع الأيام تفعل ما تشاء، وطِب نفساً إذا حكم القضاءُ ولا تجزعْ لحادثةِ الليالي فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ وكنْ رجلاً على الأهوالِ جَلْداً وشيمتُكَ
السماحةُ والوفاءُ وإنْ كثُرتْ عيوبُكَ في البرايا وسرَّكَ أنْ يكونَ لها غطاءُ تسترْ بالسخاءِ فكلُّ عيبٍ يغطيهِ كما قيلَ السخاءُ ولا تَرْجُ السماحةَ منْ بخيلٍ فما في النارِ للظمآنِ ماءُ ورزقُكَ ليسَ ينقُصُهُ تأنٍّ وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ ولا حزنٌ يدومُ ولا سرورٌ ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ ومن نزلتْ بساحتِه المنايا فلا أرضٌ تقيهِ ولا سماءُ وأرضُ اللهِ واسعةٌ ولكن إذا نزلَ القضاءُ ضاقَ الفضاءُ. حكمةٌ قد لا تُعجِبُ بعضَ الشعراءِ أو
ما شابه إلى آخره، لكنها مليئةٌ بالإيمانِ مليئةٌ بالحكمةِ يُؤتيها. الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. كان يقول من بحر الطويل: إذا رمت أن تحيا سليماً من الردى ودينك موفور وعرضك صين، فلا ينطقن منك اللسان بسوءة، فكلك سوءات وللناس أعين. وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى، ودافع ولكن بالتي هي أحسن. كان له يعني أشياء في ما زلنا نعيش فيها إلى الآن. كان يقول: "نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا، ونهج ذا الزمان بغير ذنب، ولو نطق الزمان لنا هجانا،
وليس الذئب يأكل لحم ذئب، ويأكل بعضنا بعضاً عياناً". رحم الله الإمام الشافعي ورضي الله تعالى عنه، دُفِنَ في مكانه المعروف بمسجده المعروف الآن. بالإمام الشافعي، وقد أمر صلاح الدين الأيوبي بصنع تابوت خشبي لقبر الشافعي مزخرف ومؤرخ عليه سنة خمسمائة وأربعة وسبعين، وصنعه شخص يُدعى عبيد أبو المعالي كما هو مكتوب على قبر الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعليه: "الشافعي إمام الناس كله في العلم والحلم والعلياء والبأس، له الإمامة في" الدنيا مسلمة كما الخلافة في أبناء عباس، أصحابه خير
أصحاب، ومذهبه خير المذاهب عند الله والناس، وكما قال بعضهم: "أنا شافعي ما حييت، فإن أمت فوصيتي للناس هل يتشفعون"، فإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.