الإمام النووي | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

الإمام النووي | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة - تاريخ التشريع الإسلامي, شخصيات إسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس طيبين مع تاريخ التشريع، نعيش من خلال ترجمة الأئمة الأعلام. الذين أثروا الذكرى وأثروا الفقه وأثروا الشريعة الإسلامية، نعيش اليوم مع رجل مبارك عجيب غريب، هو الإمام يحيى بن شرف بن مري النووي رضي الله تعالى عنه وأرضاه. ولد الإمام النووي في سنة
ستمائة وواحد وثلاثين من الهجرة، وتوفي سنة ستمائة وستة وسبعين، يعني كان عمره وهو قد... مات منذ خمسة وأربعين سنة، كان من قرية تبعد ستين كيلومتراً من دمشق وهي قرية نوى. وفي هذه القرية يقول الشاعر الظريف: وُقيتِ شراً يا نوى، أو لقيتِ خيراً يا نوى، ووُقيتِ من ألم النوى، فلقد نشأ بكِ عالمٌ لله أخلص ما نوى، وعلى علاه وفضله فضل الحبوب على النوى. يعني استعمل كلمة "نوى" في معانٍ متعددة في هذا المقام. كل من كان اسمه يحيى يُكنى بأبي زكريا لأن سيدنا زكريا أبو سيدنا يحيى. دائماً يحيى
يكون أبو زكريا، وداود يكون أبو سليمان، وسليمان يكون أبو داود. هكذا كانوا يقولونها. والإمام النووي كان كأنه وحيد ولم يتزوج، تزوج العلم. عاش هذه الفترة مِن أقراصٍ تصنعُها له أمُّه، ويأتي إليها، وينزل كي يزور أمَّه. كان أبوه يجلب الجراية أو الزاد ويقعد عندهم، وكانت عبارةً عن قرص. وكان الإمام النووي يصوم كل يومٍ على الله لأنه غير متزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد مَن لم يتزوج فقال: "فعليه بالصوم فإنه". له وجهان، دُفِنَ الإمام النووي لما مات دُفِنَ
في نوى أيضاً، وزرته مراراً في نوى. وعجيبٌ غريبٌ قبره، عليه أنوار وعليه بركات ورحمات عجيبة. ورأيت أن شجرة قد نبتت من قبره، من وسط قبره، وكنت أتعجب لهذا القلب الذي اصطفاه الله سبحانه وتعالى وأخرج شجرة من قلب الإمام النووي أو ضريح الإمام النووي حتى قرأت في الكتب أن هذه من علامات كبار الأولياء أن الله سبحانه وتعالى يجعل قبورهم غضة طرية كما أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع شيء من الأغصان أو من الورد أو نحو ذلك عند
القبور فإن ذلك يخفف على صاحبها فما بالك أن قد أُذِنَ لشجرةٍ بكاملها أن تكون على قبرِ الإمامِ النوويِّ رضيَ اللهُ تعالى عنه. كلُّ خلقِ اللهِ تمدحُ في النوويِّ، لم نرَ أحداً مخالفاً أو موافقاً لهذا الإمامِ إلا وهو يمدحُ في الإمامِ النوويِّ. كان الإمامُ النوويُّ رجلاً مباركاً له نيةٌ خالصةٌ، كان يجلسُ وينامُ، لقد فعلَ شيئاً غريباً جداً. نام سنتين وهو جالس، أي يجلس ليدرس هكذا. كان يدرس اثني عشر علماً في البداية، فعندما يأتي وقت النوم يغمض عينيه وهو جالس هكذا، لا ينام على جنبه حتى يستيقظ ويذاكر، يستيقظ ويذاكر. يبدو أن حالته الصحية فعلاً هي التي لم تجعله يعيش
أكثر من خمسة وأربعين سنة لأنه بذل جداً في تحرير المذهب الشافعي حتى أصبح حجة فيه وأصبح كلامه هو المرجع، وألّف من كتبه اللطيفة رياض الصالحين، ورياض الصالحين طُبع أكثر من ثلاثمائة مرة وهو موجود بين الناس، وكان أحد الناشرين يقول لي عندما أسأله: هل تعرف كم مرة طُبع رياض الصالحين؟ قال: هذا مثل الخبز. يطلبه كل أحد، لا نعرف كم مرة طُبع "رياض الصالحين". و"رياض الصالحين" يُطبع بالآلاف ويُقرأ في المساجد، وإذا أراد أحدهم أن يرشد أخاه إلى كتاب محرر منقح، يدعو إلى كيفية الدين وكيفية الأخلاق
وكيفية الفقه، يدعوه إلى "رياض الصالحين". يصف الإمام الذهبي سيدنا الإمام النووي بأنه كان أسمر اللون وكان... كثيف اللحية، وكان متوسط القامة لا طويل ولا قصير، ولكنه كان مهيباً، وكان قليل الضحك، وكان عديم اللعب، بل إنه جاد، يقول الحق وإن كان مراً، لا يخاف في الله لومة لائم. وصفه أيضاً الإمام الذهبي بأن لحيته كانت سوداء فيها شعرات بيض، وعليه سكينة، وله هيئة. هكذا في مرة. من المرات جاء أحدهم يسأل عن الإمام النووي فدخل المسجد، فلما انتهت الصلاة سأل واحداً
من الناس: "أين الإمام النووي؟" قال هذا وأشار إلى الرجل الذي بجواره، فالرجل ظن أنه الذي بعده، ما هو من غير المعقول أن يكون الذي بجانبي هو الإمام النووي، لماذا؟ كان نحيفاً ضعيفاً وكانت له عمامة، وهذه العمامة ليست فخمة هكذا، فذهب إلى الذي بعده فقال: لا، هو هذا. فتعجب الرجل جداً أن هذا هو الإمام النووي، جسمه ضعيف ونحيف وملابسه رثة. هذا هو الإمام النووي الذي ملك الدنيا في يده ولم تدخل الدنيا في قلبه، فكان صاحب كلمة مسموعة علماً ووضعاً حفظه.
الإمام النووي حفظ المطولات وقرأ المجلدات، حفظ كتاب التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي، وحفظ أيضاً المهذب، وشرح هذه الكتب فيما بعد. العلماء أثنوا على الإمام النووي، لم نرَ عالماً إلا أثنى عليه، لم يتكلم في حقه أحد. قال تلميذه ابن العطار الذي كان خادماً للنووي بعدما عرف قدره: "شيخي وقدوتي الإمام المفيدة والمؤلفات الحميدة، وحيد دهره وفريد عصره، الصوام القوام، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق الرفيعة. كان حافظاً لمذهب الشافعي وقواعده وأصوله
وفروعه ومذاهب الصحابة والتابعين. له كتاب اسمه "المجموع" يحتوي على ثمانية عشر مذهباً، وكأنه ينقل من شيء غريب، بحفظ غريب ودقة عجيبة. لابد من العمل بالتصنيف محتسبًا لله سبحانه وتعالى، وقد صار مثالًا كبيرًا للعابد العالم أيضًا. رحل الإمام النووي لطلب العلم واجتهد في هذا مع كثرة تدريسه وسماعاته وتأليفه وكثرة شيوخه. مرة جاء الإمام النووي إلى هنا، إلى مصر، في الخفاء من أجل أن يزور
قبر الإمام الشافعي، فقد كان مغرمًا الشافعي وبعد ذلك جاء ومن بعد هكذا رأى قبة الشافعي وقرأ الفاتحة ودعا وما إلى ذلك وعاد إلى الشام. وبعد ذلك كان تقي الدين السبكي هنا من سبك الأحد أو سبك العويضات التي في المنوفية. قال: "يا الله، لقد سمعت الإمام النووي هنا". فقالوا له: "نعم، لقد كان هنا وزار الشافعي حتى لم يقترب من هذا القبر، ومن بعيد هكذا قرأ الفاتحة وأخذ حاجته ومضى. قال: "أهذا كلام؟ إمام الدنيا يأتي مصر ولا نحتفل به ولا نجلس معه ولا غير ذلك" وأنهى عمله هنا. السبكي، تقي الدين السبكي، علي بن عبد الكافي، ثم انتقل إلى الشام حتى يرى الإمام
النووي لما وصل إلى الشام وجد الإمام النووي انتقل إلى رحمة الله، أي أن الإمام النووي كان قد سافر من الشام إلى هنا ليزور الشافعي في أواخر حياته، وقبل أن يلحق به الإمام ابن السبكي كان الإمام النووي قد انتقل إلى رحمة الله. كان لديه كتب، يقول ابن العطار أن الإمام كتب سلفها من أناس فكان ردها إلى الناس، كان عنده أمانات ردها إلى الناس وقال له: "أنا سأذهب الآن إلى أمي وأبي في نوى". فقال له: "متى اللقاء يا إمام؟" قال: "بعد مائتي عام، بعد مائتي سنة". فكأنه كان يشعر بدنو أجله الشريف، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
لقاء آخر نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته