الإمام مالك بن أنس | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس طيبين مع تاريخ التشريع. نتحدث اليوم عن إمام الأئمة وبدر. التتمة عن مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني صاحب المذهب. كانت أمُّه تُسمى عالية، وقيل إنَّ اسمها غالية، وهي أزديَّة من الأزد، فهو عربيٌّ من جهة
الأب ومن جهة الأم. وُلِدَ عام ثلاثة وتسعين، وهو تقريباً نفس العام الذي توفي فيه أنس بن مالك. وُلِدَ الإمام... مالك بالمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والتحية نشأ في صون وفي غنى وفي رفاهة وفي تجمّل وطلب الحديث وطلب الفقه وتخرج على يد كبار العلماء. كان أبيض البشرة مشرباً بحمرة، وكان يلبس الثياب البيضاء، وكان يختار
من الثياب الأبيض شديد البياض، وكان طويل القامة جسيماً عظيم الهامة، وكان أزرق عظيم اللحية، وكان أصلع، وكان لا يخفي شاربه، ويراه مثل من يرى أن إخفاء الشارب وحلقه يُعَدُّ تشويهاً. كان له شارب ولحية بيضاء وشعر أبيض، وهو أبيض مشرب بالحمرة، وهو جسيم وطويل. هكذا كان رضي الله تعالى عنه الإمام مالك أستاذه الذي انتفع به. إنه مفيد جداً، نافع مولى ابن عمر، يكون نافع تلميذ ابن عمر، وابن عمر أعتق نافع وكان
إماماً كبيراً. هذا نافع كان أستاذ مالك، وكان هناك أيضاً أساتذة كثيرون لدرجة أنه قال: "لم أجلس للفتوى حتى أذن لي سبعون من أهل المدينة"، سبعون عالماً منهم سعيد المقبري ومنهم عامر. ابن عبد الله بن الزبير منهم ابن المنكدر منهم الزهري منهم عبد الله بن دينار منهم ابن هرمز منهم أبو الزناد منهم ربيع الرأي أناس كثيرون جداً وحدَّث عنه أيضاً أناس كثيرون أيضاً حتى شيوخه حدّثوا عنه زملاؤه حدّثوا عنه
شيوخه نافع بن عامر يحيى بن أبي كثير الزهري حدَّث عن مالك ومعمر وابن جريج وأبي حنيفة والأوزاعي، حدثوا عن مالك. ومالك في الحقيقة يعني جلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء للحديث أو للفتوى. الشافعي عالم كبير في الحديث لكنه لم يجلس للحديث. أبو حنيفة يعرف الحديث جيداً ولكنه لم يجلس للحديث. الإمام مالك والإمام أحمد هؤلاء الذين جلسوا للحديث، ولذلك تجد صحيح البخاري مليئاً بمرويات الإمام مالك. والإمام مالك له كتاب في الحديث الذي هو الموطأ. فكان مالك
يطلق على علم الرواية وعلم الحديث أنه لا بد فيه من الثقات، ولذلك عندما جاء في الموطأ وقال "بلغنا"، قالوا إن هؤلاء لا بد أن يكونوا ثقات لا يروي إلا عن ثقة، منهجه في هذا أن هذا العلم والنقل دين، وكان يقول: "فانظروا عمن تأخذون دينكم". لقد أدركت سبعين ممن يقولون: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" عند هذه الأساطين - الأساطين يعني الأعمدة التي موجودة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما تركت سبعين حديثاً لأنني أريد أن أكون متأكداً مائة في المائة من أجل الناس الذين يشككون في السنة. لقد بُذل في السنة ما الله به عليم. أما علمه في
الفقه فقد أخذ بالرواية وأخذ أيضاً بالرأي، وكان من بين أساتذته ربيعة الرأي، ولذلك كان لمالك مجلسان: واحد للحديث وواحد للفقه. والفتية كان يقول حقاً على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، وكان مالك إذا أراد أن يحدِّث بحديث رسول الله توضأ وجلس وسرَّح لحيته وتطيب بأحسن طيب وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ثم حدَّث، احتراماً لحديث رسول الله واحتراماً للمسجد النبوي الشريف وإجلالاً لرسول الله لأنه كان. وَرَدَ
عَن مالِك أنَّه كان يَسير في المدينة فَيَخلع نَعلَيه تأدُّباً لأنَّه يَطأ تُراباً وطِئَه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. الإمام مالك من المُجتهدين العِظام، فكان أوَّلاً يَذهب إلى كتاب الله، ثانياً يَذهب إلى السُّنة، ويقِف عندها، ويتأمَّل ويتدبَّر في الجمع بينها وبين السُّنة، ولذلك كان موقفه من قضية نجاسة الكلب: الكلب عند مالك طاهر وليس نجساً. الشافعي يقول إنه نجس، لكن مالك يقول أبداً، الكلب طاهر. قالوا له: طيب، أليس أنت رويت في الموطأ "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات
إحداهن بالتراب"؟ قال: نعم، سمعت هذا الكلام ورويته وهو حديث صحيح. قالوا له: طيب، أصبح حديثًا صحيحًا والكلب طاهر؟ قال: لا، هذا تعبّد. نحن لا نعرف لماذا يقول سبع مرات إحداهن بالتراب. هذا تعبّد. أما الكلب فأصبح ذاته ولعابه ليس نجسًا ولا شيء لأنه حي، وكل حي طاهر. الأمر الثاني: كيف ينص القرآن على إباحة أكل صيد الكلب؟ "أُحِلَّ لهم" يقول سبحانه. وتعالى: "قل أُحِلَّ لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم". نعم، لنتوقف عند قوله: "فكلوا مما أمسكن
عليكم". هذا يعني أنه إذا قيل لي: أن الكلب سيأتي وأجعله يمسك الصيد وآكله، فكيف يكون نجساً؟ كيف أصطاد به ويكون نجساً؟ علماً أن عضة بالتراب أيضاً، قالوا: لا، ربنا لم يقل لنا هكذا ولا الرسول قال هكذا، فهو يقول: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم"، لم يقل "معَضّ الكلب"، وكان "معَضّ الكلب" أولى لأنها وردت في القرآن وأُبيحت في القرآن. فالإمام مالك ذهب إلى طهارة لعاب الكلب مع صحة الحديث عنده لأن الحديث له... معنى آخر وهو أنه تعبد لا نعرف معناه هكذا كما يقول لك، ثم بعد ذلك اكتشفوا أن لعاب الكلب فيه شيء لا يزول إلا بالتراب، فيه ميكروب. إذاً ليس لأنه نجس،
بل لأن فيه ميكروب. هناك فرق طبعاً بين الشيء النجس والشيء الذي فيه ميكروب. فكان الإمام مالك رضي الله تعالى عنه لديه وعي ولديه دراية، ليس رواية فقط، بل لديه الرواية ولديه الدراية. وكان الإمام مالك يُعلمنا شيئاً مهماً جداً يقع فيه الناس كثيراً، فإخواننا الآن عندما لا يعجبهم الحديث ينكرونه، لا، يجب عليك أن تفهمه قبل أن تنكره، فكان هنا إذاً يُقال... هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ قال له: نعم، صحيح، ها هو الكلام، نعم صحيح. والآخر، كي يُظهر أنه ليس كذلك، يقول لك: لا، هذا الحديث باطل، لا، خطأ. هذا الحديث صحيح لكن افهمه فهماً عميقاً، نعم صحيح، ولكنني أفهمه فهماً آخر غير الفهم الذي أنت. أفهمك لأن القرآن
يقول كذا، ولأن المصلحة تقول كذا، ولأن العقل يقول كذا. إذاً، الإمام مالك يعلمنا منهجه، يعلمنا كيف نفهم وكيف نختلف. فقد أباح الإمام مالك أن يثب الكلب على صاحبه، فهذا الكلب كثير الالتصاق بصاحبه، لكن قال: فقط عندما يلغ في... هنا أحدكم هو ما تفعله سبعة إحداهن بالتراب، أما لو يقبّل صديقه، ولا هذا كله حي طاهر. الإمام مالك توفي سنة مائة وتسعة وسبعين هجرية ودفن بالبقيع في المدينة المنورة. اللهم ألحقنا به على الإيمان وانفعنا بعلومه في الدارين. له كتاب الموطأ، وتلاميذه عملوا
كتاب المدونة. وإلى لقاء آخر. نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته