الحسن البصري | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون وأيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين مع تاريخ التشريع الإسلامي. في هذا الشهر الكريم نتكلم. عن أولئك الطيبين من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين إلى يومنا هذا من أهل الذكر وأهل الفقه وأهل الاجتهاد من هؤلاء كان هناك سيد من سادات التابعين وهو الإمام الحسن البصري الحسن ابن أبي الحسن أو الحسن كان اسمه يسار وكان
مولى زيد بن ثابت الأنصاري كان من سبي ميسان وهي قريةٌ كبيرةٌ واسعةٌ بين البصرة وواسط في العراق. في غزوات المسلمين الأولى وُلِدَ قبل سنتين من نهاية خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وُلِدَ بالمدينة عام واحد وعشرين أو اثنين وعشرين تقريباً في هذه الحدود. وكانت أمه اسمها خَيْرَة، وكانت تخدم السيدة أم سلمة أم المؤمنين، ترسلها في حاجاتها فيبكي الحسن وهو طفل فترضعه أم المؤمنين أم سلمة لتسكته رضي الله تعالى عنها وأرضاها. فالحسن البصري هو ابن أم سلمة من الرضاعة،
تربى في بيت النبوة الطاهر، فتلقى العلم عن أم سلمة، ودعا له عمر بن الخطاب نفسه مرة رآه فقال: "اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس" فكان. كذلك كان الحسن البصري خلوقاً وهو أصل سلسلة التصوف الإسلامي، عندما يروي مشايخ الصوفية درجة الإحسان والتربية يروونها من طريق الحسن البصري حيث تلقاها عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. شكك بعض الناس أن يكون الحسن البصري قد سمع من علي فأثبت ذلك العلماء منهم صاحب كتاب. القول الحسن في إثبات سماع الحسن يعني سماع الحسن البصري من سيدنا علي لأن
سيدنا علي أدركه الحسن البصري بل وأخذ منه طريقة التربية وهو ما زال شاباً صغيراً عنده خمسة عشر أو ستة عشر سنة. بيت النبوة والتربية فيه تحدث أشياء عجيبة غريبة. كان سيدنا الحسن البصري حسن الصورة. كان عظيم اليدين، وكان من الناحية الخُلُقية فقيهاً ثقةً حجةً مأموناً، كان ناسكاً وكان فصيحاً، أي أنه تربى في بيت أم سلمة العربية القرشية. وكان أبو عمرو بن العلاء وهو من كبار النحاة ومن أساتذة العربية الكبار يقول: "ما رأيت أفصح من الحسن البصري"، كان يتكلم فيصل الكلام إلى قلوب لأنه كان يخرج
من القلب، كان الحسن البصري في كلامه أشبه بكلام الأنبياء من الحكمة، لأنه تنزلت عليه الحكمة. قال تعالى: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً". وهذا الكلام أشبه بما قالته عنه السيدة عائشة عندما سمعته فقالت: "من هذا الذي يتكلم بكلام الصديقين؟" أي أن السيدة عائشة أدركت هذا المنحى. سُئل أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن مسألة، وأنس صحابي كبير، خادم رسول الله، وخادم رسول الله يعني كان مع رسول الله
دائماً، إذاً فهو من كبار العلماء. فسُئل عن مسألة فقال: "اسألوا مولانا الحسن"، يعني الحسن البصري، فإنه سمع وسمعنا. فحفظ ونسينا الإمام أنس، رحمه الله، وطال عمره حتى زاد عن المائة، لكن سيدنا الحسن في الحقيقة هو يعني روى عن الصحابة ورأى أكثر من مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبارك الله في وقته وفي علمه وفي فضله، فكان أيضاً شديد الذكاء، فكانت له منزلة الرواية ولها منزلة أيضاً في الرأي، فلم تكن فتواه قاصرة على
الرواية، بل كان الحسن في فتواه وآرائه يراعي المقاصد العامة للشريعة، يراعي مصالح الناس وواقعهم. كان أشبه رأياً بسيدنا عمر في الفهم والإدراك. كان سيدنا عمر رجل دولة وكان رجلاً واقعياً. يقول قتادة عن الحسن البصري: "فوالله ما رأيتُ رجلاً أشبه رأياً بعمر بن الخطاب منه، يعني أن عمر دعا له كما نقول نحن: دعا له بالفهم وبالحب، ولذلك نجد الإمام الحسن البصري يستخدم القياس. هذا القياس يحتاج إلى إعمال العقل في الفُتيا، فيقيس ما لا نص فيه ولم يرد في الشريعة على ما ورد فيه النص مرة.
سأله أبو سلمة بن عبد الرحمن: ما تفتي به الناس، أشيء سمعته أم شيء تقوله برأيك؟ يعني أنت متمسك فقط بالوارد والمنقولات وما شابه ذلك أم تُعْمِلُ عقلك؟ قال: لا والله، ما كل ما نفتي به سمعناه، ولكن رأينا مع العلم والتقوى والتدريب خير لهم من رأيهم لأنفسهم لأنني عالم. وهم ليسوا علماء في رأيي، وإن كنت لم أسمعه فإنه جاء عن طريق الاجتهاد بعد توفر شروطه. هذه أزمة عصرنا يا إخواننا: تصدر كثير من الناس للعلم من غير تعلُّم ومن غير جلوس على الصالحين وعلى العلماء، ومن غير شهادة الصالحين والعلماء لهم. كان
الحسن البصري معلماً وكان... يبدو أن الناس تنسى أيضاً هذا الجانب، وهو أن العلم والتربية والأخلاق لا ينفصلان. فقد كان للحسن البصري مجلسان للعلم: مجلس خاص في منزله، ومجلس عام في المسجد، يتناول فيه الحديث والفقه وعلوم القرآن واللغة وغيرها. ومن تلاميذه أشخاص برزوا بعد ذلك وحملوا مدرسته، منهم حميد الطويل، ومنهم ثابت البناني، دينار وجرير بن حازم والربيع بن صبيح ومبارك بن فضالة وأبو الأشهب أناس كثيرون جداً، فكان تلامذته يعني يردون حتى على مذهب المعتزلة، وواصل
بن عطاء كان تلميذه، كان تلميذ الحسن البصري لكنه انفصل عنه، فقال: "اعتزلنا واصل". كان الحسن البصري مربياً وكان هو الأستاذ المعلم المربي لسيدنا عمر بن عبد العزيز الذي نسميه الخليفة الخامس الراشد، فهو الذي لقبه بسيد التابعين حيث يقول: "لقد وليت قضاء البصرة سيد التابعين"، يعني عمر بن عبد العزيز ولا سيدنا الحسن البصري؟ وعبر عنه بأنه سيد التابعين. كان ذلك في رسالة الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز وهي رسالة طويلة. رسالة طويلة ينصح فيها عمر بن عبد العزيز، يُمكننا أن نستخلص منها
أموراً يجب على من تولى الحكومة والرئاسة والمسؤولية في عصرنا هذا أن يلتفت إليها. يقول له فيها: "فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملّكك الله كعبدٍ ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال فافتقر". أهله وبدد ماله، يا سلام لو فهم الناس هذا الكلام! ها نحن نقوله الآن. الناس يقولون لك: "لا، أنتم في الأصل لا تقولون". بل نحن نقول، ولكن لا نتحدث عن أشياء محددة معينة، لأن هذا التحديد والتعيين يُفقد النصيحة موعظتها ونصحها العام ومعناها التام، وكذلك يحتاج إلى أن أتحقق، يعني قلت له: أنت فلان الفلاني،
لا تفعل هذا. يقول لي: بل أفعل. وهذا حدث مرة وعشرة وعشرين، حتى جعل العلماء يعظون وينبهون بمثل هذا: يا أخي، أنت لا تضيع من توليت عليهم، ولا تسرق من توليت عليهم، ولا تسرق المال العام، وكذا إلى آخره. أما القاضي فهو الذي يحكم. بعد ذلك ويقول هذا لص أو هذا بريء في هذه الرسالة الطويلة يقول له فيها: اعلم أن التفكر في الخير يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يساوي ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤنة المنقطعة التي تعقب الراحة. تعبٌ طويلٌ خيرٌ من تعجيلِ
راحةٍ منقطعةٍ تُعقِبُ مؤونةً باقيةً، فاحذر هذه الدارَ الصارعةَ الخادعةَ التي قد تزينت بخدعها وغرَّت بغرورها وقتلت أهلها بأملها. إذًا فيجب علينا أن ندرس مثل هذه الأشياء في رسالة الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز في رسالة الأدبيات السياسية العالية. كان الحسن البصري شديد الحزن سُئِلَ عن ذلك فقال: يحق لمن يعلم أن الموت يأتيه وأن الساعة موعده وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهد أن يطول حزنه. بمعنى على أي
شيء تفرحون؟ كن هادئًا متأملًا متدبرًا. روى الطبراني عن الحسن البصري أنه قال: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة ورجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا. وليس لهم أعمال صالحة، يقول أحدهم: "إنني أحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله"، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل. اللهم اجعلنا من بركات الحسن البصري رضي الله تعالى عنه وأرضاه. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.