الليث بن سعد | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. واليوم مع رجل مصري أصيل، مع الإمام الليث بن سعد بن عبد الرحمن الأصبهاني الأصل، المصري المولد، الإمام الحافظ الذي سُمِّي بشيخ الديار المصرية، وبعالم الديار المصرية، وبرئيس الديار المصرية. مولده كان في سنة أربعة وتسعين في قرية من مركز توخ بالقليوبية قرية تُسمى قرقشنده وهي موجودة إلى يومنا هذا. وُلِدَ
في هذه السنة وطلب العلم وحج سنة ثلاث عشرة ومائة، فكان عمره في هذه السن تسعة عشر سنة. فأدرك الكبار: الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، حتى قيل إنه أدرك. نيِّفاً وخمسين رجلاً من التابعين. الإمام رحل لطلب العلم فتنقل بين مكة والمدينة وبغداد من أجل أن يجمع علم العالم الإسلامي، والرحلة كانت لها مكانتها في طلب العلم في هذا الزمن. تلقى
العلم عن هشام بن عروة، وهشام بن عروة هذا هو هشام بن عروة بن الزبير، وتلقى أيضاً عن ابن شعيب وله سند معروف، يقول عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. كان إماماً مصرياً خالصاً، وُلد في مصر ودُفن في مصر في مكان هو الآن خلف الإمام الشافعي. وله مسجد ومسجده معروف ويُزار. مدفون فيه الإمام الليث بن سعد خلف مسجد الإمام الشافعي. وكان الإمام الشافعي يحبه جداً. ورحل من بغداد إلى القاهرة من أجل أن يتلقى علومه أي من تلاميذه،
وكان الشافعي يتأسف على فواته، أي فوات القراءة على الليث بن سعد ومناقشة الليث بن سعد، وكان يقول هو أفقه من مالك. انتبه أن الشافعي كان يحب مالكاً جداً ويعظمه ويقول: إذا ذُكِرَ العلماء فمالك النجم. إلا أن أصحابه لم يقوموا به، أي إلا أن أصحابه ضيعوه، ضيعوا الليث بن سعد. وقال الشافعي أيضًا: كان الليث أتبع للأثر من مالك. طبعًا معروف أن الإمام مالك هو إمام الأثر وإمام أهل المدينة، ولكن كان الليث أتبع للأثر من مالك لأنه كان يبحث عن مناهج السنة ولا يقف. عند مسألته قال يحيى بن بكير: "هو أفقه من مالك، لكن الحظوظ لمالك"، يعني أن مالكاً وجد تلاميذ يحملون
عنه كتاب الموطأ ويحملون عنه علمه ونشروا علمه في المغرب، مثل يحيى بن أبي يحيى وغيره. وقال ابن وهب تلميذ مالك: "لولا الليث ومالك لضللنا". كان الإمام الليث شيئاً كبيراً، وكان كان ابن وهب يقرأ مسائل الليث، فمرت به مسألة فقال رجل: "أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكاً يجيب فيجيب". فقال ابن وهب للرجل: "بل كان مالك يسمع الليث يجيب فيجيب، والله الذي لا إله إلا هو، ما رأينا أحداً أفقه من الليث". يعني أن الرجل كان يظن أن الليث وهب يقول له أبداً، هذا مالك هو الذي يُقلّد الليث. سمع الإمام الليث من يزيد بن أبي حبيب وابن مسلم الزهري وأبي الزبير المكي ونافع مولى
سيدنا ابن عمر وعطاء بن أبي رباح وسعيد المقبري وغيرهم. وروى عن الإمام ليث كثيرون منهم محمد بن عجلان وهو كان محمد بن... عجلان هذا من شيوخه، من شيوخ الليث، ولكن كان يروي عنه هشام بن سعد وعبد الله بن لهيعة. عبد الله بن لهيعة كان قاضياً لمصر، ولكن كان فيه شيء من التشيع. كان الإمام الليث عنده سخاء وكرم، واشتهر عنه هذا جداً، وقصصه كثيرة جداً. يقول أبو صالح كاتب الليث... الذي كان يكتب له إملاءات وما إلى ذلك، كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا، فقلنا ليس يشبه صاحبنا.
فسمع مالك كلامنا. ذهبوا إلى بيت مالك واستأذنوا، فقيل لهم: انتظروا قليلاً. فقالوا: والله، هذا ليس مثل صاحبنا، هذا لديه كرم ولديه حسن استقبال وما إلى ذلك، فأدخلنا عليه. قال لنا: "من صاحبكم؟"، فقلنا: "الليث بن سعد"، فقال: "تشبهونني برجل كتبنا إليه في قليل من العصفر نصبغ به ثياب صبياننا". يعني نحن عندما نحتاج أي شيء نذهب إلى الليث بن سعد، وعندما نأتي للتبرك نتبرك بالليث بن سعد، حتى أن ألوان ملابس صبياننا نطلبها من الليث. يروي ابن سعد وأبو صالح كاتبه
أيضاً قائلاً: رافقت الليث عشرين سنة، لم يتناول الغداء أو العشاء وحده أبداً، بل كان لا بد أن يكون عنده ضيوف، فلا يأكل إلا مع الناس. وكان لا يتناول الطعام إلا مع اللحم، وهو لحم غالٍ، فهو رجل كريم ومضياف وكثير العطاء، وكان يُطعم النحل وسمن البقر وفي الصيف سويق اللوز في السكري، يكون هذا ما هو؟ ليس كريماً فحسب، بل هو كريم ومعطاء وسخي. فكان رضي الله تعالى عنه هذا حاله في خُلُقه. أما في علمه، فكان الليث مجتهداً، وكان له كل يوم
أربعة مجالس يجلس فيها، أول مجلس يجلس فيه لنائب السلطان وحوائجه، وكان الليث يزوره السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، يعني كان هو فوق السلطان. ويجلس مرة ثانية لأصحاب الحديث، وكان يقول: "نجحوا أصحاب الحوانيت". وكان يجلس للفقه، وكان رابعاً يجلس لقضاء حوائج الناس. كان الليث بن سعد رضي الله تعالى. عنه مما ينبغي أن تفخر به مصر لأنه مع الإمام الشافعي من الأئمة المجتهدين
الكبار كان له موقف مع الخليفة هارون الرشيد كبير وسأله هارون فقال: حلفت أي على زوجتي بالطلاق أن لي جنتين فما المخرج؟ فقال له: إنك تخاف الله. فحلف له، فقال له: أليس قال الله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.