عبد الله بن عمرو بن العاص | تاريخ التشريع الإسلامي | برنامج مجالس الطيبين موسم 2011 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحباً وأهلاً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين في هذا الشهر المبارك، نتكلم فيها عن تاريخ التشريع وعن الصحابة الكرام، ابتداءً تكلمنا عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الله بن عباس وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم، ونتكلم اليوم عن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي، من العبادلة الكبار، من الفقهاء العظام، وكانت
كنيته أبو محمد، كان اسمه قبل أن أسلم العاص عمرو بن العاص خلف ابنه وسماه باسم أبيه فأصبح العاص ابن عمرو بن العاص، فلما أسلم غيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غيّر بعض الأسماء، وهنا نأخذ فقهاً لأنه غيّر من أسلم حديثاً من العاص. عاصٍ كلمة تعني شيئاً ما. عاصي تم تغييره إلى عبد الله، لكنه لم يُغيِّر اسم جده لأن جده قد مات منذ زمن، ولأنه قد استقر بين الناس باسم عمرو
بن العاص. لا يوجد اسم يمكن أن يغيره الآن، ولذلك غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أشياء مثل عبد الكعبة. غراب اسمه غراب، وواحد اسمه أفلح، وواحد اسمه شيطان، فكان مما غيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين اسماً. أبوه رضي الله تعالى عنه عمرو بن العاص الذي فتح مصر، وكل إسلام أهل مصر في ميزان حسناته يوم القيامة. وكان أبوه عمرو يكبر عبد الله ابنه بإحدى عشرة عشر سنوات يعني كأنه تزوج وهو صغير، عادة العرب هكذا، لأن هذه حالة شائعة عند كثير من الناس. بمقاييس
العصر طفل إحدى عشرة سنة هذا طفل، فكيف لا؟ هذا رجل بلغ ما بلغه الرجال وتزوج وأنجب، فالفرق بينه وبين ابنه. هذا ليس معناه أننا ندعو الناس إلى أن نزوج. الأولاد في سن إحدى عشرة سنة يعني أن نفهم ما الذي حدث في بيئة ذلك الزمن الأول وفي ظروف ذلك الزمن الأول، لأن كثيراً من الناس يتهم الإسلام ويتهم العرب ويتهم المسلمين بمثل هذا، وهذه كانت عادة ذلك الزمن، وكان هذا موجوداً في الفرس وفي الهند وفي المغرب وفي مصر مكان، فهذا لا بد أن نقرأ التاريخ في ظل ظرفه وفي ظل بيئته. كان سيدنا عبد الله بن عمرو
بن العاص رجلاً سميناً طويلاً أحمر، كان عظيم البطن وكان كثير الصيام جداً كما سنرى سوياً. أسلم عبد الله بن عمرو قبل أبيه عمرو بن العاص. عمرو بن العاص كان مشغولاً. يذهب ليضرب شيئاً ما، يعني مكيدة في المسلمين الذين في الحبشة، يذهب ليفعل هذا وذاك. لكن عبد الله بن عمرو شرح الله صدره للإسلام، ومنذ أن أسلم عبد الله لم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبده ونسكه، وعكف على القرآن فحفظه وفهمه، وجلس في المسجد يتعبد ويصوم النهار ويقوم الليل. لا ينقطع عن الذكر أبداً، كان قوياً في عبادته وكان مثالاً صالحاً فيها. مرة حفظ القرآن، ما نزل من القرآن قرأه في ليلة، كل ما حفظه. فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأه في شهر". قال: "يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي". قال: "اقرأه في عشر". أيام يعني في عشر قال: قلت يا رسول الله دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال: اقرأه في سبع. قلت له: في السبع لكي تستطيع تدبره، لأن القرآن ليس مجرد أن تقرأه هكذا، "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، ويروي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن قال له: "أأنت تصوم الدهر؟" قال: "نعم". قال: "إنك إذا فعلت ذلك ضعفت،
عيناك وكلّت نفسك. لا صام من صام الدهر. صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله. صوم ثلاثة أيام في الشهر فقط، ثلاثة في عشرة من ثواب ربنا، فيكون إذا نصوم هكذا". فضلوا يجادلون أيضاً: "أنا قوي، أنا...". كذا إلى آخره فإني أطيق أكثر من ذلك. قال: فصم صوم داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى. أنت أمامك مازالت أشياء كثيرة من العلم، وأمامك جهاد، وأمامك سفر، وأمامك دعوة، فلا تفعل هكذا. وعمر سيدنا عبد الله بن عمر عمراً طويلاً، وكان لما تقدمت السِّنُّ وضعفه يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ينبغي يا جماعة أن نستمع إلى رسول الله ونتخذ نصيحته لأنه أرحم بنا منا، ولذلك عندما كان يجدهم يواصلون في الصيام يقول لهم: "لا، إنما أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني". وكان عبد الله بن عمرو كان ابن العاص مستوعباً لمفهوم رسول الله هذا، لكنه كان يحب الله كثيراً فأراد أن يفعل شيئاً، فكان يروي قائلاً: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله". لا تُملّ نفسك من عبادة الله، فإن المنبت لا قطع أرضاً ولا أبقى ظهراً. قطع ولا ظهرًا، وابقَ واعمل عمل امرئٍ يظن أنه لن يموت إلا هرمًا، واحذر حذر امرئٍ يحسب
أنه سيموت غدًا. العلماء فسروا هذا الكلام بأنك كالذي يظن أنه سيموت غدًا، ماذا ستفعل الآن؟ ستفعل أنك تقوم ولا ترتشي ولا تقتل ولا تزني ولا تكذب لأنك ستموت غدًا، فتب إلى الله. لكن لنفترض أنك ستعيش مائة سنة، فما لم نحققه اليوم سنحققه غداً، ولذلك هذا الحديث فيه دعوة لعدم التكالب على الدنيا. وكان سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عبد الله بن عمرو كأنه... متعلم جيدًا ومتعلم لغات أجنبية، فكان أيضًا يُتقن السريانية. فكان أول شيء أنه كان يكتب، والشيء الثاني أنه يُتقن السريانية
ويعرف لغة أجنبية. فلما دخل الإسلام أعدّ له مذكرة أو صحيفة سُميت بعد ذلك بالصحيفة الصادقة، وكتب فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع فيها أحاديث كثيرة. من مائة وثلاثين حديثاً، والنبي عليه الصلاة والسلام أذن له بالكتابة. النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يأذن بالكتابة كثيراً حتى لا يختلط الحديث مع القرآن، ولا يرتبك أحد ولا يقول: "أنا وجدت ورقة مكتوبة"، أبداً. لكنه سمح لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب لأنه يعلم ثقافته. يعلم علمَه، يعلم ذوقه، يعلم إتقانه للكتابة، فهو يعرف خطّه. وهكذا عبد الله بن عمرو يقول: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، قالوا: أتكتب كل شيء تسمعه من النبي وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة وذكرت ذلك. لرسول الله فأومأ بإصبعي إلى فمه فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق" صلى الله عليه وسلم. كان أبو هريرة يقول: "ليس أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثاً عنه مني إلا عبد الله بن عمرو، فهو أكثر مني، لأنه كان يكتب وكنت لا أكتب" سيدنا. عبدُ الله بن عمرو بالرغم من أنه عاصَر رسولَ الله وبأنه كان هكذا في مكانته، إلا أنه كان يروي عن أبي بكر وعمر وابن عوف وأبي الدرداء،
وأيضاً كان الصحابة يروون عنه، عبدُ الله بن عمر وأبو أمامة والمسور والسائب بن يزيد وكثيرون جداً، وكذلك كان له تلاميذُ من... التابعين كسعيد بن المسيب وعروة وطاووس بن كيسان هذا كان إماماً كبيراً من اليمن وعطاء بن يسار ومسروق إلى آخر هؤلاء. عبد الله كان له فضل كبير فهو إمام وعابد وتقي وله أيضاً مسائل فقهية. هذه المسائل الفقهية يمكن أن نلخصها فيما يلي. المسائل الفقهية هذه الحقيقة أنها جاءت. من رواياته
للحديث روى أكثر من سبع مائة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجد أحاديثه في البخاري وفي مسلم وفي مسند الإمام أحمد وفي غيرها من كتب الحديث. كان عبد الله مات رضي الله تعالى عنه في سنة خمس وستين من الهجرة ودُفن في داره وكانت داره. موجودة في مسجد أو بجوار مسجد عمرو بن العاص أبيه. الحقيقة أنه قيل إنه مات بالشام وقيل إنه مات بمكة، لكن الراجح أنه دفن في مصر وفي مسجد أبيه. ولذلك عندما تدخل
مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة تجد قبراً على يسارك في جهة القبلة من الناحية البحرية، أي الشمالية، يعني... شمال المسجد فهذا القبر هو قبر سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص على الراجح وليس على اليقين. تجده عندما تدخل المسجد وتذهب إلى القبلة في الداخل، هناك على يسارك (يسار القبلة، أي من جهة الشمال الجغرافي) تجد هناك قبراً، وتجد أن هذا هو قبر سيدنا عبد الله بن عمرو. أما قبر سيدنا عمرو بن العاص نفسه فإنه غير معروف إطلاقاً لأحد. أكثر من سبعين صحابياً دخلوا مصر، أكثر من سبعين صحابياً ماتوا في مصر سواء في
جهادهم أو في موتهم العادي، منهم عبادة بن الصامت، منهم عمرو بن العاص، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص. ولكن هؤلاء قد شرَّفت بهم مصر في شمالها وفي جنوبها، منها قرية الشهداء المدفون فيها صحابة كثيرون، ومنها البهنسا في بني سويف المدفون فيها صحابة كثيرون، ولذلك فمصر هي موئل الصحابة الكرام. تفخر مصر بأن أكثر من سبعين صحابياً جمعهم الإمام السيوطي في كتابه "درُّ الصحابة فيمن نزل مصر من كان منهم سيدنا أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.