عقيدة العوام | الإمام الدردير | المقدمة | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. اهتم علماء الإسلام بتحرير العقيدة الإسلامية ونقلها إلى الناس، وألّفوا الكتب من أجل تحرير هذا الشأن على مستويات كثيرة، حتى أنهم ألّفوا للعوام. وممن ألّف للعوام ليبيّن العقيدة الإمام الدردير المالكي المصري الأزهري والإمام. كان الدردير في أواخر القرن الثامن عشر للهجرة، وتتلمذ عليه مجموعة كبيرة من العلماء،
واهتم بتعليم الناس أمر دينهم وعقائدهم، ولذلك ألّف منظومة أسماها الخريدة البهية. وهذه الخريدة في العقيدة الإسلامية بدأها بتفهيم الإنسان مدخلاً للعقل الذي يصل به إلى الله، وأنهاها بمجموعة من آداب الأخلاق التي أرشدنا إليها رسول صلى الله عليه وسلم أنها غاية الدين فقال في مرتبة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك وهذه العقائد جردوها من الأدلة حتى
يأخذها العوام مسلمة ولكن ليس هناك حرف من حروفها إلا وله دليل في الكتاب وله دليل في السنة وعليه اتفاق بين علماء الأمة من العاملين الأتقياء الأنقياء من سلف الأمة الصالح وخلفها، يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، وقد نبتت نابتة تريد أن تغير عقائد المسلمين، فحسبنا الله ونعم الوكيل، والأمر بيد الله من قبل ومن بعد، سيغنينا الله من فضله ورسوله، إلا أن الأزهر الشريف قام لحماية هذا
المعتقد الكريم جيلًا بعد جيلٍ عن سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم من غير دعوةٍ ولا ادعاءٍ، إنما بعلمٍ محضٍ، وهذه القصيدة الخريدة البهية - والخريدة معناها اللؤلؤة الجميلة والجوهرة النفيسة - فهذه الخريدة البهية كان يتغنى بها الأطفال بدلًا من الغناء الذي لا حاجة لنا فيه، والذي في بعضه يسب ورسوله وشرعه وصحابته وأخلاقه، فبدلاً من ذلك كان الطفل يتعلم أقسام حكم العقل لا محالة هي: الوجوب، ثم الاستحالة، ثم الجواز ثالث الأقسام.
فافهم، منحت لذة الأفهام، ويجلس الطفل يتغنى بهذا ويستقر في ذهنه أن العقل له أحكام ثلاثة: الوجوب والإمكان (الجواز يعني) والاستحالة، وهو صغير هكذا عنده عشر سنوات. فيخرج مستقيم الفكر ويخرج نزيه النفس، ولكن عندما فقدنا هذا ونطق الرويبضة كما بشَّر سيدنا صلى الله عليه وسلم فقال: "وينطق الرويبضة"، قالوا: "وما الرويبضة يا رسول الله؟"، قال: "الرجل التافه يتكلم في الأمر الجليل"، وقد كان فصدق الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من ذلك فإن الشيخ الدردير رحمه الله تعالى ألّف عقيدة هي
أسهل وأبسط من الخريدة، فجعل الخريدة لطلبة العلم المبتدئين، ولكن جعل صفحة واحدة تشمل كل العقيدة في صفحة واحدة، وسمى هذه العقيدة بعقيدة العوام، أي أنها في منتهى السهولة. وقد اهتم بعقيدة العوام تلميذ له اسمه الشيخ مصطفى العقباوي، والشيخ مصطفى تتلمذ على الشيخ الدردير وكان من مائة عقبة فسُمي العقباوي هكذا، وعقبة بن عامر نزل مصر، وعقبة
كان من جماعة معاوية، إلا أن أهل الله سبحانه وتعالى والمنحازين لسيدنا علي كانوا يحبون عقبة بالرغم من أنه كان في معسكر معاوية، وذلك أن عقبة هو الذي حفّظ سيدنا الحسين القرآن، وهكذا كان المسلمون مع اختلاف مشاربهم السياسية يحبون بعضهم بعضًا ويشعرون بشيء من الوفاء، فعندما كان سيدنا عقبة بن عامر هو أستاذ سيدنا الحسين وهو الذي حفّظه القرآن، فإنهم عظّموه بالرغم من أنه مخالف لهم في المذهب السياسي، فهذا مع سيدنا معاوية وهذا مع سيدنا علي، لا مشكلة في
ذلك، ولكن عندما تأتي قضية ظهر في هذا الأمر ودُفن عقبة بمصر من نحو سبعين صحابياً نزلوا مصر، وأوردهم الإمام السيوطي في كتاب "حُسن المحاضرة" في فصلٍ يُسمى "بدر السحابة في من نزل مصر من الصحابة". وقبره إلى الآن يُزار، وهو خلف مقام الإمام الشافعي في آخر الطريق بعد الفارسي وبعد ابن حجر العسقلاني وبعد في الشارع الذي إذا ما دخلت بجوار سيدنا الإمام الشافعي وجعلته على يمينك وتجاوزت المسجد تجد نفسك في حارة صغيرة، إذا سرت
فيها إلى نهايتها بعد الليث بن سعد تجد الإمام سيدنا عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، حتى أن أبناءه إلى اليوم يسكنون حول هذه المنطقة ويُسمَّوْن العقبية. أي نسبة إلى سيدنا عقبة، وقد قام الشيخ مصطفى بشرح هذه العقيدة التي تقع في صفحة واحدة، ثم إنه شرح هذا الشرح ووسّعه، فنرى أن العلماء منذ القديم كانوا يراعون مستوى التلقي، فهناك شرح في صفحة إذا أردت، وهناك في عشرين صفحة، وهناك في أربعين صفحة، وكل هذا في
المستوى التهيئة ونحن في هذا الوقت المبارك الكريم نقرأ تلك الصفحة وندعو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلم الشيخ الدردير في الدارين في الدار الدنيا وفي دار الآخرة وأن يجازيه عنا خير ما جازى عالماً عن أمته وأن يشرح صدورنا لنفهم تلك العقائد المنقولة جيلاً بعد جيل من أئمة الإسلام الذين وهبوا حياتهم لله ولرسوله وكانوا في نظافة الضمير والعقل والقلب واليد المثال الأجل، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين. كانوا أولياء عن حق، أكثروا من ذكر الله وملؤوا الأرض عدلاً وطيباً،
فرضي الله تعالى عنهم أجمعين.